المقالات

الإدارة بالفطرة !! .. حوار ساخن

صدى الوادي – د . محمد ناجي عطيةدكتور ناجي عطية

مقدمة :
يظن الكثير من الناس انه لابد من تعلم مبادئ الإدارة ومواضيعها وأبوابها المتقدمة ، حتى أصبحت الفكرة هاجس عند البعض ويحسبون أن كل أمور الناس ومعايشهم لا تصلح إلا بهذا.
ولكل هؤلاء ممكن أن يقال ، كيف أدار الناس أمور حياتاهم على مر الأزمان ، في الزراعة والتجارة والصناعة، وسائر مجالات الحياة؟  هل كان الجميع على علم ودراية بأسس ومبادئ الإدارة؟ أم أن هناك نوع من الإدارة هي الخبرة التي يتناقلها الناس بعضهم من بعض؟ هل يمكن أن تكون فطرة في الناس أودعها الله في نفوسهم لكي تستقيم بذلك حياتهم؟
للإجابة على هذه الأسئلة، أترككم مع هذا الحوار الهادف:
حوار ساخن بيني وبينها :
قالت لي بعفوية الحديث بين المرأة وزوجها البعيد عن الرسميات، ضيعت نص عمرك تتعلم إدارة، أقدر اشرح لك الموضوع بنص ساعة، بس لو تتنازل وتسمعني يا.. صاحب الإدارة والتخطيط الاستراتيجي.
ضحكت وقهقهت من قلبي.. وقررت أن أثبت عجزها وأن ألقنها درسا حال فشلها ،لأنزل عليها العقوبة المناسبة إذا عجزت.  فأضمرت في نفسي أمرين: الأول أعطيها الوقت الكافي لتقول ما تشاء،
والثاني: اسمع باهتمام لما عندها لأكتشف الأخطاء قبل أن أفكر بالانتقام من تحديها المُررر.
قالت:  إذا جمعت لي الناس – على عادتك – وتريد لهم ضيافة غداء تعرف كيف أخطط يا..يا مدير.
قلت: هاتي .. الله يصبرني.
قالت : أسالك قبل الموعد بوقت كاف ولا لا ؟ مش تجي في نفس اللحظة وتشتي غدا ، سأرفضك طلبك وأرفض استقبال ضيوفك، وأقول لك غديهم أنت في المطعم .. صح؟
قلت : صح ..
حينها أطرقت مفكرا .. لقد تذكرت مبدأ من أهم مبادئ التخطيط، وهو انه يجب أن يبدأ قبل العمل (وجوبا إداريا) ، ولا يصح التخطيط أثناء العمل أو قبله بوقت قصير وغير كاف ، كل ذلك من اجل الاستعداد اللازم لتنفيذ الهدف على أكمل وجه.
قالت : مالك مدوخ .. ايش فيك ، كلامي صح قلت، وأنا بين مغالبة الضحك ومحاولة كبت الغضب ..صح.
قالت : أسالك عن عدد الضيوف، واقترح عليك نوع الغداء،  ومستوى الطبخ ومكان الوليمة .. صح ؟
قلت : فعلا صح ..
وتذكرت حينها أهداف التخطيط ، وأنه لا توجد خطة صغيرة ولا كبير إلا بهدف أو أهداف صغيرة أو كبيرة ، ولا توجد البتة خطة بدون هدف . لان الهدف غاية والخطة وسيلة للوصول إليه ، فلا يمكن
الانشغال بالوسيلة إذا غاب الهدف . ويجب أن تكون تلك الأهداف واضحة محددة واقعية قابلة للقياس محددة بزمن له بداية ونهاية ، يعني SMART.
نظرت مستغربة من صمتي الطويل وبماذا أفكر ..
ثم واصلت:
–         اطلب منك توفير الطلبات كاملة
–         اطلب منك احتياطي زيادة في كمية الطلبات.
–         اطلب منك تجهز المبلغ المطلوب لتوفير الطلبات
–         اطلب منك إحضار لي مساعدات ليساعدوني بجانب أولادي.
–         اطلب وصول الحاجات في الوقت المحدد بالضبط.
–         صح .. ولا لا ؟
قلت بإعجاب :   صح والله صح ..
تذكرت حينها الموارد المالية والمادية والبشرية الواجب توفيرها من اجل التنفيذ الخطة وتحقيق الهدف.
وتذكرت الخطة البديلة (الاحتياط) لمواجهة الطوارئ في الخطة الأساسية.
قالت : عند توفر الطلبات ووصول المساعدات، ابدأ بأموري كالتالي:
–         نخطط سويا بسرعة ما العمل، ونحدد طريقة ترتيب السفرة ونوع الطعام وطريقة التقديم .
–         نحدد متى ينتهي العمل تماما والتي يجب أن تكون قبل اللحظة التي سيأتي فيها الضيوف بوقت مناسب.
–         أوزع الشغل عليهن واحدة تنظف وتطيب المكان.
–         الثانية تساعدني في طبخ الطعام.
–         الأولاد يحضرون الطلبات الناقصة ويساعدونا في وقت التقديم.
–         التأكد من جاهزية كل شيء.
–         الانطلاق نحو العمل.
قلت:  نعم .. صدقتِ..
وهنا تذكرت أمرين:
–          تذكرت الخطة التنفيذية (التشغيلية).
–         والقاعدة الذهبية ، “ابدأ وعينك في النهاية” من قواعد الإدارة، وربما وضوح الرؤية إن جاز التعبير، والمعنى ارسم أولا كيف تتصور نهاية العمل بتفاصيله الدقيقة ، وبناء على ذلك ارسم
خطتك التنفيذية. فان قدر الوضوح والدقة في تصورك لهدفك ، يساعد كثيرا في الوصول إليه.
قالت : في الوقت المحدد يبدأ العمل وفي الوقت المحدد لنهايته  (يجب) أن ينتهي.
ثم أردفت.. فإذا انتهى العمل في المطبخ، وجاء الضيوف،  نبدأ فورا في المرحلة التالية وهي تقديم الغداء بحسب  ما خططنا له بكل حذافيره ، ونمنع الاجتهاد من أي طرف (خاصة أنت لابد أن تترك
اجتهاداتك جانبا ) حتى لا تتلخبط الأمور… صح ولا عند اعتراض؟.
وهنا فعلا أيقنت أني أمام عقلية رغم بساطتها لكنها تضع خطة عمل بسيطة جدا وسليمة للغاية.
وأدركت معنى مهم ، أن المرأة هي المدير التنفيذي في  (مؤسسة )المنزل ، وأنا … الرئيس. فكما يجب عليها طاعتي في تنفيذ رؤيتي ورغباتي… ومن غير نقاش (إلا أحيانا) ، وذلك خوفا أن تعيقني
عن غايات وأهداف بعيدة أنا أفكر فيها ، وهي لا تدركها . فمنعا من حدوث ذلك واستباقا للأحداث، وقطعا للطريق عليها، اضطر لان أكلفها بالتنفيذ، من غير نقاش، وأمارس معها نوع من الدكتاتورية 
(ديكتاتورية منزلية مبسطة ومؤقتة) لكنها مبررة ولي عذري فيها، فليس كل دكتاتورية مرفوضة ، بل قد تجب خصوصا وقت الأزمات والطوارئ .
قالت بضيق :  ياليتني أعرف أين يشرد ذهنك عني .. هل هذا وقت تفكر فيه (بغيري ).
فانفجرت ضاحكا.. ثم قلت لها:   ( أنت فين وأنا فين ) يا الله واصلي الشرح يا سيادة المديرة (اقصد مديرة البيت والمطبخ ) انتن هذا تفكيركن دائما يا معاشر النساء.
قالت :  فإذا  انتهى الضيوف من الغداء وانصرفوا ، نبدأ نحن في التجهيز للمرحلة الأخيرة من العمل، وهي إعادة الأوضاع في المطبخ إلى ما كانت عليه كالتالي:
–         نحدد العمل
–         نوزعه بيننا
–         نحدد زمن البداية وزمن النهاية
فتذكرت مراحل العمل ، وان المرحلة التالية، يجب ألا تبدأ إلا بعد الانتهاء من المرحلة الأولى ، فأي تداخل بينها قدر يربك ويخرب أكثر من أن يصلح .
 وان شئت قل : مدخلات المرحلة الثانية هي مخرجات المرحلة الأولى. ومدخلات المرحلة الثالثة هي مخرجات المرحلة الثانية.. وهكذا.
قالت :  هذا يا سيدي المدير كل ما في الأمر.
ثم قلت لها:  رائع.. رائع فعلا .. قلتها مع إعجابي بلفظة سيدي، لأنها تهاجمني من أول الكلام وتزعم أن لديها علما غزيرا تتطاول علي به.
طبعا  لا أخفيكم ، في هذه اللحظة انبسطت غاية الانبساط من البساطة في التفكير والتلقائية في الطرح والوضوح في الأهداف والمراحل والإجراءات والإمكانيات… شيء عجيب فعلا.
وتساءلت هل نستطيع أن ندير مؤسساتنا بهذه البساطة والتلقائية؟
أم ترى هل نضطر إلى أخذ دورات قصيرة في فن بساطة الإدارة عند نساءنا في البيوت؟
ثم قلت لها ،  مذكرا لا معاتبا ، لأني احسب أنها أنهت كل ما يجب عليها من أساسيات التخطيط.
قلت لها:  لقد نسيت شيئا مهما، وهو أهم شيء تركزين عليه بعد كل وليمة، وبعد كل عمل.
قالت: وما هو؟
قلت : حاولي تعرفين.
ففكرت قليلا ثم قالت  ضاحكة.. ما عادك تشتي.. غديت ضيوفك وروحوا .. والسلام .. بقي ترضى أنت، وهو أهم شي عندي.
قلت: يا مديرة المطبخ، وربة البيت السعيد ، بعد كل وليمة تطلعين روحي وتسأليني بالتفصيل عن مستوى الغداء وهل أعجبهم وكم التكاليف .. هل نفس الذي حددنا أم لا.. صح؟.
قالت : أوووه .. والله  صح … كيف نسيت مع أنها أمتع لحظة عندي ، لأني اشعر بالانجاز وتحقيق الهدف.
وبصراحة مادام تكلمت .. أنا دائما افتح معك الموضوع لأني أريد أن أسمع منك أكبر قدر من كلمات الثناء والإعجاب عن طبخي وعن طاعتي لك وإكرامي لضيوفك ، وعن حسن تدبيري.
وأنا اعتب عليك بصراحة .. بصراحة انك تنسى تقول لي هذا الكلام على بساطته وعظيم أثره عندي.
حينها، استشعرت أمورأ  مهمة في علم الإدارة منها :
–         ضرورة تقييم العمل بعد الانجاز ومقارنة المدخلات بالمخرجات وقياس الانحراف، وهل حقق الهدف ومستوى التحقيق وهل يبرر المصروف عليه من الجهد والمال.
–         عامل التحفيز مهم .. مهم للغاية لأنه من المبادئ الإدارية التي تجعل العامل يتفانى في تقديم الخدمة وينفذ الأوامر القادمة بكل حماس.
–         وللعلم هذا العامل (التحفيز) ينساه الكثير من المديرين (كما نسيته أنا، غفلة لا تعمدا ) ويهتمون بانجاز الأعمال على حساب العاملين، فهل تحتاج أن يذكروك أو يعاتبوك ، كما فعلت معي
زوجتي.
قلت لها : بقي أمر واحد فقط وأخير.
قالت : لحظة ذكرتني بأمر مهم ، تأكد إني لن أطيع لك أي أمر برغبة تامة، إلا إذ رضيت عن جهدي وعبرت لي عن ذلك ، وإلا فاني سأطيعك لعظيم حقك علي، لكنها طاعة جافة ، منزوعة الرغبة
والإبداع والتفنن والابتكار في طرق رضاك ، لقد قتلت كل هذا بيديك ، بسبب بخلك بمجرد كلام، فلا تلمني حينها ، ووجه اللوم إلى نفسك وأسلوبك الخشن في إدارة شئون المنزل.
فنظرت لها نظرة تصديق وتأكيد لكلامها
ثم قلت : الأمر الأخير .. هل كنت تلاحظين أني كل مرة يأتينا الضيوف أو حينما أكلفك بأي مهمة أخرى، كنت دائما أمر عليك قبل انتهاء العمل بساعة على الأقل، لا تأكد أن كل شي على ما يرام.
قالت : نعم  وما العجب في ذلك … كنت أحيانا أحب هذه الزيارة ، وأحيانا أتضايق منها .
أحبها لأني اشعر بالدعم والثقة ،  وأنك معي إذا حصل خلل أو خطأ أو نقص ما، وأتضايق خوفا من النقد اللاذع والمحبط إذا لاحظت خطأ ما، خاصة وأن الوقت لا يتسع لسمع كلام محبط ومنفر.
حينها تذكرت ما يسمى بالرقابة أو المتابعة والإشراف الإداري ، وأن أشهر أنواع الرقابة صنفان ، أثناء العمل وبعد العمل:
 فإما ما يكون منها أثناء العمل، فأنه مهم للغاية ، والسبب أنه يعطي فرصة كافية لتفادي الأخطاء الصغيرة وربما الجسيمة، ويوفر من المال والجهد الشيء الكثير.
وأما رقابة بعد العمل، فهي تقييميه لن تتفادى الأخطاء الماضية، لكنها تكسب منها العبر لتفاديها في المرات اللاحقة.
لاحظت أن  كثير من المدراء يهملون النوع الأول من الرقابة،  فيستفحل الخطأ وهم مشغولون عنه بأمور أخرى، فلا تسل كم تتحمل المؤسسات من الأخطاء الرقابية القاتلة.
والخلاصة:
 وبعد هذا الحوار الساخن،  أدركت أن أكثر الناس يفهمون الإدارة بطرقهم الخاصة ، كأنها فطرة الله التي فطر الناس عليها. فيستطيع الناس امتلاك الحد الذي يستطيعون به تسيير أمور حياتهم ،
رحمة من الله وفضل حتى لا يضطرون لأخذ (دورات) مخففة أو مكثفة في الإدارة من اجل ذلك .
 وما عملته الإدارة الحديثة هو تأصيل هذا العلم الفطري، وتطويره أكثر وجعله ذي كفاءة وفعالية أكبر وأن يكون مناسبا لمواجهة تحديات العصر وإدارة المنشآت الصغيرة والكبيرة وحتى إدارة
المنظمات عابرات القارات، وحكومات الدول ما صغر منها وما كبر، والتنظيمات المعقدة ما ظهر منها وما بطن.
ملاحظة مهمة :
هذا الحوار افتراضي من خيال الكاتب ولم يحصل البتة .. و يهدف للوصول إلى شرح المعاني  البسيطة في التخطيط والإدارة.. وتحقيق معنى الإدارة بالفطرة .. فإن شاء الله وصلت الفكرة.
المركز الوطتي لعلاج الأورام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى