المقالات

فؤاد الخفش .. الإقامة الجبرية.. قتل للروح وتدمير لطفولة المقدسيين

لا يفتأ هذا المحتل عن ابتداع وسائل جديدة لمعاقبة الفلسطينيين، ليس هذا وحسب بل يتفنن بطرق إيذاء الفلسطيني بشتى الوسائل والطرق مستخدما أساليب نفسية وعلمية جديدة ومبتعدا عن العشوائية في عقابه وعقوباته التي يفرضها على الفلسطيني.

لطالما قلت إن هناك خبراء إسرائيليين نفسيين متخصصين بتطوير وابتداع واختراع الوسائل المتطورة بعقاب الفلسطينيين، وهذا ما يفسر وجود أساليب دوما جديدة تزيد الخناق على الفلسطيني.

هذا الأمر نلحظه بالسجون والمعتقلات وخارجها على الحواجز والمناطق الحساسة، لا شيء عبثيا ولا شيء صدفة، كل شيء يقوم به الاحتلال مدروس، ابتداءً من اللون الذي يلون به جدران الزنازين والطرق الإلكترونية التي يراقب بها حركة المعتقل، وصولا للحواجز العسكرية وكاميرات المراقبة وطرق الاعتقال والملاحقة وأساليب التحقيق والتعذيب.

لم يُخفِ الاحتلال يوما أن هدفه قتل الروح داخل جسد الفلسطيني، ولم يحاول أن يبرر ما يقوم به؛ لأنه مقتنع أنه يريد أن يضع كل شي لحماية منظومته الأمنية، وتحت مبرر الحفاظ على أمن “إسرائيل” يخالف الأعراف والمواثيق والقوانين الدولية والإنسانية، فأمنه فوق كل قانون وللحفاظ عليه هو مستعد للقيام بكل ما هو محرم.

“كل شيء يقوم به الاحتلال مدروس، ابتداءً من اللون الذي يلون به جدران الزنازين والطرق الإلكترونية التي يراقب بها حركة المعتقل، وصولا للحواجز العسكرية وكاميرات المراقبة وطرق الاعتقال والملاحقة وأساليب التحقيق والتعذيب”

في حرب الاحتلال ضد الفلسطيني -وتحديدا المقدسي- ابتكر مؤخرا عقوبة (الإقامة الجبرية) أو (الحبس المنزلي) كشكل من أشكال الالتفاف على القانون، وهو عقاب مفصل للطفل والمرأة المقدسية دون سواهما من أبناء المدينة المحتلة.

حجم العقوبة
اتسعت دائرة الاحتلال في استخدام هذه العقوبة مع الأطفال المقدسيين بعد جريمة قتل الطفل أحمد أبو خضير بمدينة القدس، وهو طفل فلسطيني خُطف وحرق وقتل في الثاني من يوليو/تموز 2014، حيث صاحب هذا الحدث الإجرامي هبّة ومواجهات عنيفة ومتواصلة مع الاحتلال شارك بها مئات الأطفال الفلسطينيين من القدس وضواحيها وتحديدا منطقة شعفاط التي ينتمي لها الطفل أبو خضير، ورصدت بعد الحادث أكثر من أربعمئة حالة اعتقال لأطفال فرض على أثرها 280 حالة إقامة جبرية فقط بمنطقة القدس.

وتزايدت الأعداد بعد “هبة القدس” بداية أكتوبر/تشرين الأول 2015 والتي شهدت ارتفاعا كبيرا في حجم اعتقال الأطفال المقدسيين تجاوز خلال ثلاثة شهور من ذات العام سبعمئة حالة اعتقال للأطفال المقدسيين، وفرضت الإقامة الجبرية على أكثر من 350 طفلا منهم ولمدد متفاوتة، لينخفض العدد خلال عام 2016 إلى 550 حالة اعتقال لأطفال مقدسيين فرضت الإقامة الجبرية على ما يقارب ثلاثمئة طفل مقدسي.

الأرقام المذهلة التي تشير لها الإحصائيات والمتعلقة بحالات الاعتقال وفرض الإقامة الجبرية على الأطفال، تؤكد حجم الحرب الشرسة التي يفرضها الاحتلال على المدينة المحتلة، ويكون الوضع أخطر وأصعب إذا ما تحدثنا عن أثر مثل هكذا اعتقالات وعقوبات على الطفل المقدسي.

نصّت جميع القوانين والأعراف والمواثيق الدولية على ضرورة توفير الحماية للأطفال وعدم فرض العقوبات عليهم، وذلك بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان حيث يجب أن يتمتع الأطفال بالحق في الرعاية والحماية الخاصتين، وحسب المادة رقم 1 من اتفاقية حقوق الطفل “الطفل هو كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة، ما لم يبلغ سن الرشد قبل ذلك بموجب القانون المنطبق عليه”.

وهنا فإن الاحتجاز التعسفي يقع تحت انتهاك الحق في الحرية، كما أنه أول ما تتضمنه المادة 9 من العهد الخاص بالحقوق المدنية والاقتصادية هو متطلب قانونية التوقيف والاحتجاز. ولا يُسمح بالحرمان من الحرية، إلا عندما يتم لأسباب وطبقا لإجراءات يقررها القانون. ويقع انتهاك لمبدأ القانونية إذا تعرض شخص للتوقيف أو الاحتجاز لأسباب غير مقررة تقريرا واضحا في القانون أو تتنافى مع هذا القانون.

وهنا ترفض دولة الاحتلال اعتبار الطفل من لم يتجاوز الثامنة عشرة، وتصنفه تصنيفا خاصا حسب بعدين: الأول الطفل من هو دون الـ 14 عاما، والثاني حسب المنطقة الجغرافية.

فالاحتلال احتجز ويحتجز عشرات الأطفال الفلسطينيين الذين لم يتجاوزوا اثني عشر عاما دون أدنى اعتبار للعمر وحتى الجنس، فالعالم بأسره شاهد كيف قام الاحتلال باحتجاز أصغر طفلة وهي “ملاك الخطيب” التي اعتقلت بتاريخ 31 ديسمبر/كانون الأول 2014 وعمرها 14 عاما، وهي طالبة في الصف الثامن صدر بحقها حكم تجاوز الشهرين مع غرامة مالية عالية، وهو ذات الاحتلال الذي يحكم بالإقامة الجبرية على طفل فلسطيني مقدسي من ذات العمر بحجة أن القانون الإسرائيلي لا يسمح بذات المعاملة مع من يحمل (الهوية الزرقاء) وهذا شكل من أشكال التمييز الذي يمنعه القانون الدولي الإنساني في نص المادة (2) والتي تكفل الحماية للأطفال من التمييز القائم ليس فقط على أساس ظروفهم الخاصة، بل أيضا بسبب ظروف آبائهم أو أوصيائهم القانونيين أو أفراد أسرهم.

“أي إجراء عقابي مهما كان يترك أثرا نفسيا على الإنسان كبر أو صغر، وبعض آثار هذه العقوبات لا يزول مع الزمن بل يزداد، وعقوبة الإقامة الجبرية على الطفل لها ما لها من آثار سلبية”

آثار نفسية
أي إجراء عقابي مهما كان يترك أثرا نفسيا على الإنسان مهما كبر أو صغر وبعض آثار هذه العقوبات لا يزول مع الزمن بل يزداد، وعقوبة الإقامة الجبرية على الطفل لها ما لها من آثار سلبية سواء كان على الصعيد النفسي أو الاجتماعي أو مهارات التواصل والتحصيل الدراسي.

لطالما اقترنت الحركة والنشاط والحيوية والطاقة مع كلمة طفل، فمن طبيعة الطفل الحركة الزائدة والنشاط والحيوية والتنقل، وهذا الأمر يتم الحد منه في حال فرض هذه العقوبة.

فحجز واحتجاز وتقيد حركة طفل في بقعة محددة ومكان صغير كالمنزل تقتل داخل جسده الطاقات وتصيبه بالإحباط وتجعل همته ونشاطه يفتر وتحوله لطفل يفتعل المشاكل بالبيت ليخرج من دائرة الحصار التي يعيشها، وتحوله مع زجر العائلة لطفل عدواني أو شخص انطوائي محاصر داخل أربعة جدران.

عقوبة الإقامة الجبرية أو الحبس المنزلي قتل للروح داخل جسد الطفل الذي يعشق الحركة والتنقل واللعب، وهي عقاب لم يفرضه الاحتلال بشكل عبثي بل بشكل مدروس، كما أسلفت في المقدمة، فهذا الاحتلال دوما يستعين بخبراء وعلماء علم النفس في ابتداع وسائل عقابية، فالحبس عكس الحركة الصفة الملازمة للطفل.

نعم تحولت منازل الأطفال الفلسطينيين لسجون كبيرة تضيق جدرانها على أصحابها، وتحولت جدرانها لزنازين معتمة تجعل من الحياة أمرا صعبا على هكذا طفل.

حرمان الطفل من الذهاب لمدرسته أمر صعب يسهم في تأخر الطفل المقدسي، ويجعل من أمر عودته للمدرسة بعد ترفع أبناء جيله لصفوف عليا أمرا نفسيا ليس من السهل بمكان تجاوزه.

التقيت شخصيا بالعشرات الذين اعتقلوا وهم أطفال وتأخروا عن صفوفهم لعام، ووجدت كم هو من الصعب عودة هذا الطفل للمدرسة مع أطفال أصغر منه، وكم يلاقي من صعوبة في الاندماج وتجاوز الأمر نفسيا، الأمر الذي يجعل الطفل يميل لترك المدرسة، وإن أجبر على أن يعود يكون غير قادر على مواصلة تعليمه ويتحول لشخص سلبي. هذا أمر عاينته بنفسي وتعاملت معه بشكل مباشر، الأمر الذي يوضح حجم ما يعانيه الطفل في حال انقطاعه عن التعليم لفرض السجن أو الحبس المنزلي والإقامة الجبرية.

عشرات الأعراض الأخرى التي تصاحب هذه العقوبة تظهر آثارها على الأطفال كالخوف الزائد من أي شيء، ففي حال كان هناك صوت خارج المنزل أو دق الباب بشكل قوي، فإن الملاحظ تغير ملامح الطفل وخوفه؛ لتوقعه أن دق الباب مصاحب للاعتقال كما حدث معه أثناء اعتقاله، بالإضافة للتبول اللاإرادي وقضم الأظافر والعصبية المفرطة وضربه لإخوانه الذين يصغرونه.

عزلة وخوف
ومن الآثار النفسية التي قد تصيب الطفل المعتقل والمفروض عليه إقامة جبرية وحبس منزلي هو عدم القدرة على الاندماج بالمجتمع والعزلة والابتعاد خوفا من العودة مرة أخرى للعقاب والحبس، الأمر الذي يترتب عليه مشاكل نفسية واجتماعية سببها الخوف الزائد.

“التقيت شخصيا بالعشرات الذين اعتقلوا وهم أطفال وتأخروا عن صفوفهم لعام، ووجدت كم هو من الصعب عودة هذا الطفل للمدرسة مع أطفال أصغر منه، وكم يلاقي من صعوبة في الاندماج وتجاوز الأمر نفسيا”

كثيرا ما يستخدم الاحتلال العقوبة المنزلية والإقامة الجبرية وفرض الغرامة المالية الباهظة بشكل احتيالي لحين تجاوز الطفل عمرا محددا، ومن ثم يتم اعتقاله في حال وصل للعمر المطلوب. فهناك من الأطفال من يحتجز لحين تجاوز العمر ومن ثم يعود للمحاكمة؛ لأنه أفرج عنه بكفالة مالية ووقت الوصول للعمر يتم الحكم عليه وفرض عقوبة الحبس، كما حدث مع عشرات الأطفال المقدسيين، الأمر الذي يبقي الطفل في حالة رعب وترقب دائم.

مع كل ما سبق ذكره وتشخيصه وتحليله من أثر وسوء هذا النوع من العقوبات، نجد الساحة الفلسطينية بشكل عام والمقدسية بشكل خاص تفتقر وتفتقد وجود مؤسسات رعاية نفسية واجتماعية تعالج هذه الآثار المترتبة على الحبس المنزلي.

فالطفل يترك لمواجهة مصيره لوحده مع عائلته التي قد لا تكون قادرة على التعامل مع مثل كهذا حالات، وهي بحاجة ماسة للإسناد النفسي والاجتماعي لتلافي جميع ما ذكر من آثار نفسية تترتب على هكذا حالة.

العلاج
نحن كفلسطينيين بارعون في تشخيص الأمراض وقادرون على تحديد مواطن الخلل والآثار المترتبة على كل ما يقوم به الاحتلال، دون القدرة على وضع الخطط العلاجية لمواجهة الآثار، بل على العكس نعتبر الحديث عن مشاكل نفسية شيئا يسيء للنضال والمقاومة وشكلا من أشكال المبالغة، وهذا أمر غير صحيح، فمن يشخص عليه أن يعالج.

القدس وأطفال القدس وما تعانيه المدينة بحاجة لتركيز، وبحاجة لمراكز مختصة تعالج كل ما ينتج عن هذا الاحتلال. والطفولة بفلسطين تحتاج لاهتمام أكبر ورعاية من نوع خاص، واهتمام حقيقي. فالمحتل لا يترك وسيلة لتدمير القدس وخلق حالة واقع يريده هو بطريقته، يريد مدينة لا تمت للعروبة والإسلام بصلة ومواطنا خائفا يبحث ليل نهار عن قوت يومه وسلامة بيته وأطفاله غير منتمٍ لمشاكل وطنه.

آن الأوان وحان الوقت لوضع حلول لمشاكل القدس فهي رمز الصراع وبوصلة الوطن، وتاريخنا الذي لن نسمح لأحد بكتابته غيرنا.

وإلى أن نصل لذلك اليوم الذي يعود للمدينة بريق قبتها ورائحة أزقتها بدون يهود، للقدس وأطفالها وشيوخها ونسوتها ومرابطيها منا كل حب وسلام.

 

المركز الوطتي لعلاج الأورام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى