المقالات

بلال الطيب : وطن يبحث عن وطن !!

بَعـد عمليـات طـويلة من الاستـلاب العقـائـدي والسيـاسي، والتغاضي النخبوي الغيـر مُبـرر، وصلت اليمن إلى ما وصلت إليه، نَحـنُ لا سوانا أحـوج ما نكون لمعرفة أنفسنا، مَعـرفـة صحيحة وشاملة، قائمة على التشخيص السليم، والبحث في الجـذور التاريخية لكل ظاهرة، لا الرضوخ لذلك الشعور السلبي، الذي يرى أن لا فائدة من المُحاولة، وأننا هكذا خُلقـنا.

اليمن، مَـوطن العرب الأول، تَـفرق العرب وبقيت تناقضاتهم مَحصُورة في ذات الحيز الجغرافي، لديها تواريخ مُشتتة، لا تاريخ جَامع، يَفخرُ جُل سُكانها بقهرهم للغزاة، وبأنهم أولي قوة وبأس شديد، وأصحاب حضارة هائلة، وماضٍ تليد، وفي المقابل، عمل البعض على استقدام «الغازي الغريب»، نصروه، وملكوه أنفسهم وبلادهم، قرابة «1150» سنة، فكان أطول احتلال عرفته الأرض.

أقـام «الأئمة الزيود» حُكمهم على جَماجم البَشر، وهيـاكل الشعارات الدينية الزائفة، غَـذى جُنـونـه شـوق عـارم للسُلطة والنفـوذ، ورغبـة جَامحة لاستعباد الناس، والتَحكم بمَصائرهم، وحين صـار وجودهم حقيقـة ثابتة، وأصل من أصـول الدين، عملوا على محـو هوية اليمنيين، وطمس حضارتهم، وإثارة خلافاتهم، وتشويه قبائلهم، انعشوا اسوأ ما فيها، وخلقوا لها المبررات العقائدية لجعل «الفيد» ديناً، و«التسلط» رجولة.

رسخوا في أبناء القبائل التمايز الطبقي، والاستعلاء الفارغ، جعلوهم يحتقرون الأعمال الزراعية، والمِهن الحرفية، والأشغال التجارية، وأصبح الشخص الذي يُمارس «التقطع»، «قبيلي» لا تلحقه أي منقصة؛ فإذا ما أراد أن يأكل «الخُبز الحلال»، مُشتغلاً بأي مهنة، يُصبح «نَاقصاً»، فاقـداً طُهره القبلي، وبالنفسية البدوية العنيفة، والعقلية الشيعية الحاقدة، تدفـق هـؤلاء صوب مناطق «اليمن الأسفل» و«تهامة»، قتلوا، ونهبوا، ودمروا، جهاداً في سبيل الله؛ وإعلاء لراية الإمام.

تعمقت الفجوة، وتوسعت الهوة، لمُجتمع هو بالأصل حافل بتناقضات صادمة، ومُتصارعة، طالما غضضنا الطرف عنها، لتُصبح مقولة «تفرق أيدي سبأ»، اسوأ حقيقة، وأشنع مثال، وما الكارثة الحوثية، إلا امتداد لذلك «التاريخ الآثم»، أطلت بارزة القسمات، واضحة المعالم، برهنت لنا وبشدة، أن الخلاف لا حـدود له، والقطيعـة لا نهايـة لها، والتـوجـس من المُستقبـل له ألف سبب يبرره.

الشهيد محمد أحمد نعمان فيلسوف الثورة ومُنظرها الأبرز، كرس جُهده لمُعالجة مَشاكل اليمن المُعقدة، من مَنظور مُختلف، جاعلاً من هذه التناقضات مُنطلقاً للدراسة والتقييم، اجتر الماضي بمآسيه الثقال، وقدمه في كتابه «الأطراف المعنية» بشفافية مُطلقة، أفزعت البعض، وبلغة جادة تمردت على السياق المتداول، وبعبارات رصينة ابتعدت كل البعد عن تلك المسحة الحالمة، التي كرسها كثيرون في كتاباتهم.

«إن هناك من يَفزع أشد الفزع لمُجرد ذكر الفروق الموجودة في الاعتبارات بين أبناء الشعب، ويعتبر ذلك عملاً ضد الوحدة الوطنية، يقصد به التمزيق والتجزئة، وتقسيم الشعب إلى شيع وطوائف وأحزاب، ويعتبر أية مُحاولة لبسط المُشكلة من هذا القبيل اثارة مخربة»، قالها «النعمان» قبل «50» عاماً، ثم مَضى مُتعمقاً في جذور المُشكلة، رابطاً إياها بأحداث مُتصلة، داعياً الجميع للاعتراف بها، ومواجهتها، والانصياع للقانون التاريخي المُتحكم، مُعتبراً ذلك كسباً لنصف الجولة.

حين حاول «الأحرار السبتمبريون» القفز على تلك الحواجز، بفعل حماسهم الثوري، كانت النتيجة أن انفجر البركان، وكاد أن يحطمهم جميعاً، ليجدوا أنفسهم ـ حد توصيف «النعمان» ـ يواجهون حقائق وجودهم صارخة مُجردة، وينظرون لتناقضات حياتهم سافرة مُفزعة.

الأسوأ من تلك التناقضات تجاهلها، وقد قَسَّم «النعمان» المُتعاطين معها إلى صنفين، «عاطفيون» يثيرون المشاعر ضد المواقف، حلولهم ذاتية، ولا تعدوا أن تكون ضرباً من ضروب الخيال، وأسلوب من أساليب القفز في الظلمات، و«عاجزون» يقنعون بالسلامة، يتخذون من مسوح التعقل منهجاً، وما يلبثون أن تدفعهم رغبة العيش في سلام لمواقف انتهازية، تُصبغ كل يوم لهم لوناً، وتصنع لهم في كل حين شعاراً.

في وقتنا الراهن، أنبرى بعض الإعلامين والسياسيين ـ بشقيهم «العاطفي» و«العاجز» ـ للتقليل من الحركة الحوثية، فهي حدَّ وصفهم دخيلة على التاريخ والجغرافيا، وبلا حاضنة شعبية؛ داعين لتجاهلها؛ من منطلق عدم نبش الأحقاد، وإثارة الضغائن، ناسين ومتناسين أنها امتداد طبيعي لـ «الإمامة الزيدية»، وفكرة سُلالية يعتنقها ملايين اليمنيين، وطامة كُبرى آخذة في التمدد حدَّ الهلاك.

قبائل الهضبة كانت وما زالت نصير «الإمامة» المُخلِص، والمُخلّص، وهي عبر تاريخها الطويل حتى وإن ثارت، إما طمعاً في المغانم؛ أو ضد إمام لتنصب آخر؛ ومن ينكر هذه الحقيقة، كمن يحجب نُور الشمس بغربال، وإذا كان الحوثيون بلا حاضنة شعبية، فمن يقاتل معهم إذن؟! أم أن الله مدَّهم بملائكة من عنده؛ بوصفهم أنصاره وأحبائه!!.

«جون كيري» وزير الخارجية الأمريكي، هو الآخر، جاء وصفه  للحوثيين بأنهم «أقلية»، متماهياً وهذه النغمة الشاردة، صحيح أنها تمييع غربي للمُشكلة، ومبرر لتدخلاتهم مُستقبلاً، تحت لافتة «حماية الأقليات»، وفق قوانين دولية مُلزمة، إلا أنها في ذات الوقت، فضحت هؤلاء «المتذبذبون»، تعاطوا معها بسذاجة، بدت تناقضاتهم باهتة، وتثير الضحك حدَّ البكاء.

الحوثيون أنفسهم استاءوا من هكذا توصيف، كيف لا؟! وهم يعتبرون أنفسهم الشعب، كل الشعب، تلاشت مظلوميتهم، وتبددت آهاتهم، التي طالما صموا أذاننا بها، ومعهم أولئك «المتذبذبون»؛ باتوا يفخرون بسيطرتهم على مكامن القوة، من «بشر» و«عتاد»، ويعدونه نصر وتمكين إلهي، وعودة الحق المسلوب لأهله.

الشهيد «النعمان» سبق الجميع بالمناداة بالحرية والديمقراطية، كدعوة وطنية، قائمة على مبدأ الشفافية، لا الضغينة والانطواء، طالب بتفعيل مشاركة أهل الحل والعقد، ذوي الفعالية الشعبية غير المُفتعلة، أو الموجهة، أو المدعومة، وأتى بحلول صالحة لكل زمان ومكان، قائمة على إزالة الحواجز لا القفز عليها، خالية من الإثارة، مُتمردة على ثقافة الاستسلام، الأمر الذي ألب عليه مُمتهني «التسلط»، ومتزمتي «اليمين»، ومُتغطرسي «اليسار».

ظل أمل إصلاح «الجمهورية» من الداخل قائماً، على يد ثُلة من الأحرار المُخلصين، كان «النعمان» أبرزهم، استاء أعداء الاستقرار من دعوته، أسكتوا صوته وللأبد «28يونيو1974»، ليتجرأ شباب اليمن بعد «36» عاماً من اغتياله، بالمناداة بذات المطالب، وفي غمرة انشغال «الأطراف المعنية» بـ «الحوار»، وصياغة «دستور اليمن الجديد»، تسلل القديم؛ وقاد جحافله المُتوحشة للقضاء على «الجمهورية»، وهي لم تحقق أهدافها المُعلنة بعد.

كطرف ضالع في كل مآسينا، حاول أرباب «الفيد»، ومُمتهني «التسلط»، إعاقة تنفيذ «مُخرجات الحوار الوطني»، وتأسيس «الدولة الإتحادية»، المشروع المُنقذ، والحلم المؤجل منذ مئات السنين، الذي سيقضي على هيمنتهم، وسيحد من نفوذهم، ورغم معرفتهم بأن غالبية الشعب مع هذا الخيار، عملوا على رفع كلفة تحقيقه، أرادوا قتله في النفوس التواقة للاستقرار، وفاتهم أن عُنف الحقد يحييه ويحييه.

«الدولة الاتحادية»، مشروع وطن يبحث عن وطن، حل ناجع، وخيار ضرورة، جاء مُلبياً لطموحات أحلام المحاولين، مُترجماً لأفكار المُستنيرين، مؤكداً أن حال اليمن لن يصلح إلا بما صلح به أولها، وهو بالأصل امتداد لـ «النموذج الحميري»، حيث نجح هؤلاء قبل «16» قرناً، بتوحيد اليمن «فيدرالياً»، وحمل ملوكهم «التبابعة»، اللقب الطويل: «ملك سبأ، وذو ريدان، وحضرموت، ويمنت»، و«تُبَّعْ» لقب ملكي لم يحمله إلا من حكم اليمن الكبير، وقريباً جدا سيستعيد اليمنيون أمجاد «حمير».

المركز الوطتي لعلاج الأورام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى