المقالات

مروان الغفوري : عن المجزرة الأخيرة

المجزرة الأخيرة التي وقعت في الحديدة هي واحدة من سلسلة مدمرة من مجازر فُتِح لها الباب بسقوط صنعاء في قبضة ميليشيات دينية.

 

كل من وقف إلى جانب الحوثي في تلك الأيام، ولو بالإيماء، عليه أن يخجل من نفسه ومن التاريخ، وليلعق أصابعه الآن، فهي مليئة بالدماء. لقد قفزت الدماء من الأجساد الممزقة أمس واليوم وملأت سطور الذين دجلوا وخانوا في تلك الأيام، الذين عزفوا للحوثي واحداً من أكثر أناشيده خداعاً ورعباً.
عمل هادي والحوثي وصالح، الثلاثة، على فتح بوابة الجريمة الكبيرة سرعان ما صارت اليمن، كل اليمن، ميداناً للرماية:
يقتل الحوثيون على مدار الساعة
تقتل القاعدة وملحقاتها بحسب الفرصة المتاحة
ويقتل التحالف عندما يريد.

 

الصورة من الحديدة وحشية بكل تفاصيلها. سيتقاتل الحوثيون والسعودية، سيقلقها الحوثيون وستطاردهم. في المطاردة تلك سيقتل مئات اليمنيين شرّ قتلة.

لدى الحوثيين والمركزي الطائفي بالمجمل حسبة فهلوية تقوم على التالي:
أوقفوا الطلعات الجوية حتى نواصل الحرب براحتنا!

نموذج هذه المعادلة قائم في البيضاء على نحو جلي.

 

لا تحلق مقاتلات التحالف فوق سماء البيضاء، لذلك احتكر الحوثيون لوحدهم واحدة من أكبر الجرائم التي ألحقت بالشعب اليمني:

 

عشرات آلاف القتلى والجرحى من أبناء البيضاء، قتلوا ودفنوا أو نزفوا حتى الموت .. في الظلام! قرى دُمرت، نسف العمران، ولجأ أغلب السكان إلى الجبال. لم يعد هناك من شكل حقيقي للحياة، لقد احتكر الحوثيون كلّياً مشهد الخراب هناك، وتلك هي الصورة التي يرغبون في تعميمها ونمذجتها.
يريد الحوثيون هذه الصورة من الحرب، وهم مستعدون لخوضها لمائة عام كما قال عبد الملك الحوثي. فبعد أن توقفت مقاتلات التحالف عن التحليق لمدة ثلاثة أسابيع هجم الحوثيون من جهة البحر ودخلوا منطقة الوازعية وخلال أسبوعين كانوا قد طردوا ثلاثين ألفاً من قُراهم.

 

 

تلك هي الصورة من الحرب التي يريدها المركز الطائفي! لا قيمة لضحاياه، لأن القاتل مقدس، هو ابن علي، والقتيل كهل أموي، من يأبه لبني أميّة!
جنازة لا ملامح لها يقف الحوثي على شاهد قبرها ويصيح: أما والله إني لأفضل منك، وأبي أفضل من أبيك، وأمي أفضل من أمك، وجدي أفضل من كل جدودكم. قالها المرة والأخرى، وجعلها موسيقاه المتكررة، وسمعها اليمنيون.
يمكننا تقسيم الجريمة الكبيرة، سقوط الدولة، إلى سلسلة جرائم، ثم نخوض حولها جدلاً إجرائياً وفنياً. وبالرغم من أن المسألة اليمنية تاريخية الطابع، لا أخلاقية، إلا أنها تصبح مع الأيام معرضاً كبيراً للتمرين على المواقف الأخلاقية بما يجعل منها مسألة فنية. داخل المسائل الإجرائية يختفي الحوثي ويفلت بجريمته الكبيرة. إن سقوط الدولة هو أم الكبائر، وهو يفتح الباب لكل أنواع الشرور.
فلا تحلق مقاتلات حربية أجنبية فوق سماء بلدك إلا عندما تفقد بلدك السيادة. أما السيادة فهي واحدة من عناصر المشروعية. العصابات التي تسقط المشروعية السياسية هي أيضاً تسقط السيادة، ثم سرعان ما تفقد آخر عناصرين من عناصر الدولة: الجغرافيا، والبشر! سقط البشر على يد الحوثي، وها هي الجغرافيا تسقط على يد الظواهر المسلحة التي نشأت كنتيجة لسقوط مشروع الدولة تحت ضربات الجائحة الحوثية!
فالجمهوريون يختزلون المعركة إلى إكراه الحوثيين للفتيات في إب على الزواج من مقاتليهم. بالنسبة لقطاع منهم فقد عثروا على دليل يؤكد موقفهم “الاجتماعي” من الجائحة الحوثية.
بينما يختزل الملكيّون المعركة إلى جرائم المقاتلات العسكرية العربية. بالنسبة لهم فالتحالف العربي ينتهك السيادة ويعتدي على الشعب اليمني.
هذا الاختزال لا علاقة له بطبيعة المسألة اليمنية الراهنة. جريمة الحديدة، واستعباد النساء في إب ليست سوى أعراض، أوجاع صغيرة، لمرض كبير، لورم يتفشى على نحو كارثي: سقوط الدولة في يد عصابة دينية!
هناك حسبة غير رسمية تقول إنه بمقابل كل ٢٠٠ يمني يقتلهم الحوثيون يقتل التحالف العربي يمنياً واحداً. بالنسبة للحوثيين فهذه أرقام ليست ذات صلّة، فهم يقتلون لأسباب تستحق! عند الحوثيون يستحق فقط ضحايا التحالف العربي البكاء والعزاء الجماهيري، لكن ضحاياهم شيء آخر.
من الواضح أن التحالف العربي لم يعد يدقق كثيراً في بنك أهدافه، ويبدي استعداداً متزايداً لضرب أهداف محتملة مهما كانت الكلفة البشرية التي ستسقط جراء ذلك.
يسقط قتلى أمام الضربات الجوية الأميركية، الروسية، التركية، الفرنسية في عديد من الدول. وثمة تواطؤ دولي لصالح ذلك النوع من الجرائم. فليس بمقدور الأميركان إدانة المجازر التي يرتكبها التحالف العربي في المدن اليمنية، فهم أيضاً عاجزون عن إدانة القوة الجوية الروسية والفرنسية والتركية في مناطق أخرى. في “حروب أوباما” كشف جيريمي سكاهيل عن صورة دولية موحشة لجرائم الدرونز الأميركية في بقاع كثيرة من العالم. المجتمع الدولي أكذوبة كبيرة، وهو أمر يدركه الخليجيون جيداً. في مذكرات حرب عاصفة الصحراء قال الأمير بندر إن السعودية اشترت موقف غورباتشوف بثلاثة مليارات دولار بناء على نصيحة من جيمس بيكر.
المقاومة، وكذلك الحكومة اليمنية، تجد نفسها أمام امتحان أخلاقي متكرر. فليست قادرة على أن تقول للتحالف العربي: توقف، اغرب عن وجهي، ما الذي تفعله.
ذلك لأنه:
يبني لها الجيوش، والمعسكرات، ويدفع رواتب الجيش والمقاومة، ويقدم قوافل الغذاء، ويوفر لها مساندة سياسية دولية، ويتعهد على نحو دائم بمنع الحوثيين من التهام مزيد من الأراضي اليمنية.
سواء نظِر إلى مجازر الطيران الحربي بوصفها “جرائم” أو أخطاء، فالصورة نفسها حدثت في الستينات، وهي ليست كل الصورة، بل واحدة من البقع على السجادة الكبيرة المتهتكة.
بحسب إدغار أوه بالانس في “اليمن الثورة والحرب” فقد كان الجيش المصري أول جيش يستخدم الأسلحة الكيماوية في المنطقة العربية. استخدم الجيش المصري، بحسب المؤرخ، ذلك النوع من الأسلحة ضد المقاتلين الملكيين والقبائل المتعاطفة معهم في صنعاء وما حولها. تلك السردية التاريخية لم تمنع مؤرخ الحروب الأشهر من القول إنه لولا الجيش المصري لما كانت ثورة ٢٦ سبتمبر قد كُتبت لها النجاة.
لا جيد في الحرب سوى انتهائها، وذلك هو علاجها الوحيد.
قبل عامين كتبتُ عشرات المرات:
الأسوأ لم يحدث بعد.
ثم حدث الأسوأ، ثم الأسوأ جداً، وربما إن الصورة الأكثر سوءاً لم تحدث بعد
أو إنها لن تقع.

 

اللهم قف مع المظلومين
والواقفين بين السماء والأرض بلا نصير،
ومع الدماء المسالة
التي حملها الباعة وجروا بها
ومع اليمنيين المساكين
الذين أحبوك وكرهوا هذه الأرض
ومع الذين قالوا لا للسفينة
ونصبوا المتاريس.

آمين

المركز الوطتي لعلاج الأورام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى