بعد شهور من الإنكار والتعتيم، اعترف الاحتلال الإسرائيلي أخيراً بتمويل وتسليح عصابات مسلحة تعمل في قطاع غزة بهدف تنفيذ أجنداته الأمنية والسياسية، في سياق سعيه لإضعاف المقاومة الفلسطينية وتعميق الانقسام الداخلي، في وقتٍ يتعرض فيه القطاع لإبادة ممنهجة منذ أكثر من عشرين شهراً.
الاعتراف جاء بعد تقارير عدة أكدت تعاون أجهزة أمن الاحتلال مع هذه العصابات، أبرزها ما صرّح به وزير الجيش السابق يوآف غالانت عن محاولة تجنيد عائلات من شمال غزة وتسليحها بمسدسات لمواجهة حركة حماس، وهو ما واجهته المقاومة بحزم منذ اللحظة الأولى.
عصابات مدعومة من الاحتلال لتجويع المدنيين
منذ بداية الحرب، عملت استخبارات الاحتلال الإسرائيلي على تجنيد قطاع الطرق واللصوص لنقل معلومات وارتكاب أعمال تخريبية ممنهجة، تضمنت حرق المستشفيات، الجامعات، المدارس، والبيوت، ونهب المساعدات التي تدخل من معابر تقع تحت سيطرة الاحتلال، وعلى رأسها معبر كرم أبو سالم.
وأكدت منظمات إغاثة دولية أن العصابات المسلحة، بدعم وحماية من جيش الاحتلال الإسرائيلي، تصادر المساعدات الإنسانية فور دخولها القطاع. وتشير مذكرة داخلية للأمم المتحدة إلى أن هذه العصابات تنشط بتساهل واضح، إن لم يكن بدعم مباشر، من قوات الاحتلال.
وقد نشرت صحيفة “هآرتس” تقريرًا يكشف خطة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والتي تعتمد على سياسة “التجويع كسلاح” في غزة، مع دعم هذه العصابات لتحقيق أهداف عسكرية وسياسية، تحت غطاء “الحرب على حماس”.
عصابة أبو شباب نموذجاً للفوضى المُصنّعة
تعد عصابة “ياسر أبو شباب” النموذج الأبرز لعصابات النهب في غزة. ترعرعت هذه العصابة شرق رفح تحت حماية دبابات الاحتلال الإسرائيلي، وشاركت في نهب المساعدات، قتل عناصر المقاومة، فرض الإتاوات على مؤسسات دولية، ومهاجمة المواطنين المدنيين.
العصابة، التي يُقال إنها تضم مجرمين مدانين بالاتجار بالمخدرات وجرائم تهريب، تتلقى تمويلًا وتسليحًا من الاحتلال، وشاركت في أعمال تخريب منسقة. ورغم ادعاءات قادتها بأنهم يحمون السكان، إلا أن تقارير فلسطينية ودولية تؤكد أنهم يعملون ضمن تنسيق كامل مع الاحتلال.
وقد أكدت مصادر عسكرية إسرائيلية أن جهاز الأمن العام (الشاباك) هو من بادر إلى تسليح هذه العصابات، واستخدمها كأداة لخلق “بديل محلي” عن حكم حماس، رغم عدم وجود ثقة كبيرة في قدرتها على إدارة القطاع.
تورط أطراف فلسطينية: السلطة في دائرة الشك
في تطور خطير، كشفت كتائب القسام أن أربعة من أفراد عصابة أبو شباب الذين قُتلوا في كمين شرق رفح هم عناصر في أجهزة أمن تابعة للسلطة الفلسطينية. وتحدثت تقارير عن تلقي العصابة رواتب من السلطة برعاية بهاء بعلوشة، مسؤول المخابرات في غزة، وسط خلافات داخلية بين قيادات السلطة حول دعم هذه الميليشيا.
ورغم نفي الناطق باسم الأجهزة الأمنية في رام الله أي علاقة بالعصابة، إلا أن المؤشرات الميدانية وشهادات شهود العيان تضع علامات استفهام حول مدى التداخل بين الاحتلال وبعض الجهات الفلسطينية في تأجيج الفوضى.
تهديد للأمن القومي المصري
يتعدى خطر هذه العصابات الشأن الفلسطيني الداخلي ليطال الأمن القومي المصري، خصوصًا مع توسع الفوضى جنوب القطاع المحاذي لسيناء. وتشير تحليلات إلى أن هذه العصابات قد تتحول إلى أدوات لتهريب السلاح والبشر، وإشعال الأوضاع الحدودية، مما قد يستخدمه الاحتلال كورقة ابتزاز سياسي ضد القاهرة.
إسرائيل تُقامر بالفوضى.. والانقلاب قادم؟
حذر محللون إسرائيليون من أن دعم الاحتلال لهذه العصابات قد ينقلب عليه، تمامًا كما حدث في تجارب مشابهة في دول مثل لبنان والعراق. فالفوضى، وإن تم التحكم بها مؤقتًا، ستخلق واقعًا يصعب احتواؤه على المدى الطويل، خاصة إذا تحولت هذه العصابات إلى كيانات مستقلة تتحدى الاحتلال نفسه.
ويحذر مراقبون من أن هذه العصابات تمثل خرقًا أمنيًا خطيرًا لمحيط المقاومة، وتُضعف فرص أي وحدة سياسية أو مشروع وطني فلسطيني. كما أنها تُستخدم كحجّة لتقسيم غزة إلى “فقاعات إنسانية” تديرها ميليشيات، وفقًا لخطة يوآف غالانت التي تشبه “عربات جدعون” وتهدف لتدمير مقومات الحياة تمهيدًا لتهجير السكان.
خلاصة
يرى مختصون أن الاحتلال الإسرائيلي يحاول إعادة صياغة المشهد الفلسطيني من خلال دعم عصابات إجرامية بهدف تفكيك المقاومة وإضعاف البنية السياسية والوطنية. لكن هذا الرهان قد يرتد عليه، سياسيًا وأمنيًا، ويحوّل قطاع غزة إلى ساحة فوضى خارجة عن السيطرة، لن تُهدد الفلسطينيين فقط، بل أمن المنطقة بأسرها.